قلعة دمشق
هذهالحاضرة التاريخية العريقة التي تختزل في جنباتها جزءا هاما من تاريخ مدينة دمشق الإسلامي. كيف لا وهي عاصمة الخلافة الأموية وامتداد للخلافة العباسية في بلاد الشام ومقرالأولى، قلاع السلاجقة هناك، وفيها أسس القادة العظام من نور الدين زنكي إلى صلاح الدين الأيوبي مقرات قيادة القوات لمواجهات حملات الفرنجة على شرقنا المنير وفيها ازدهرت العمارة العسكرية الأيوبية والدفاعات المملوكية. وبعدها تبدأ شعلتها تخمد شيئاً فشيئاً إبان الفترة العثمانية ومن ثم الانتداب الفرنسي لتعود الثورة السورية الكبرى لتوقدها من جديد وتعيد لها ألقها كحاضرة مدنية تشع بالثقافة وفنون التجارة وتصدر للعالم بأسره بروكارها الأنيق وسيفها الدمشقي العريق.
في يوم شامي مثلج توجهت “الشروق العربي” إلى قلعة دمشق لاستطلاع تاريخها العريق وكان المهندس ادمون العجي مدير القلعة في انتظارنا عند بوابتها الشمالية الملاصقة لضريح الصحابي ابي الدرداء. تجولنا برفقة المهندس ادمون والاستاذ احمد معاون مدير المشروع في أقسام القلعة التي اكتست أرضها بثوب ابيض من الثلج، وحدثنا مدير القلعة قائلا:
تشغل قلعة دمشق الزاوية الشمالية الغربية لمدينة دمشق القديمة وتتكامل أسوارها مع الأسوار الشمالية والقريبة للمدينة، حيث تشرف على ميادين استعراض الجيوش والفرسان المنتشرة بين ضفتي بردى الخلود وفرعه العقرباني المجاور للقلعة شمالاً، بينما يفصلها عن أسوار المدينة في الجهة الغربية باب النصر الذي يشغل مكانه حالياً مدخل سوق الحميدية الشهير.
درجت المصادر التاريخية والأبحاث الأثرية المكثفة مطلع القرن العشرين على تاريخ التجمعات المعمارية الحاضرة حالياً في موقع قلعة دمشق إلى فترتين أساسيتين، الأولى ما سُمي بالقلعة السلجوقية والتي تعود إلى نهايات القرن الحادي عشر،والثانية الأيوبية والتي شيدت مطلع القرن الثالث عشر.
وعن أقسام القلعة قال:
* القلعة السلجوقية:
عندما استكان حكم دمشق للسلاجقة معلنين نهاية العهد الفاطمي على يد الأمير أتسز بن أوق الخوارزمي في عام 1075م، قام هذا الأمير بالتأسيس للقلعة السلجوقية في عام 1076م واكتمل بناؤها على يد الأمير تتش بن ألب أرسلان في عام 1078م، حيث اتخذ من دمشق عاصمة لحكمه الذي امتد إلى حوران وجبل الدروز وبعلبك وصور والفرات والرحبة وبانياس وطبريا وحماه ورفنية وجبلة. خلفه في حكم دمشق سلالته الذين عرفوا بالأتابكة إلى عام 1154م، عندما أخذ نور الدين زنكي دمشق قادماً من حلب، ليتوسع حكمه آخذاً مصر في عام 1168م من خلال جيش أرسله بقيادة أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي بقصد إنقاذها من الفرنجة. توفي نور الدين في قلعة دمشق في عام 1173 وتولى ابنه الملك الصالح اسماعيل، حيث كان صغيراً ودب الفساد في أعيان السلطة مما اضطر صلاح الدين الأيوبي (وزير نور الدين في مصر) إلى القدوم إلى دمشق وتولي الحكم بعد أن بسط نفوذ الدولة الأيوبية في بلاد الشام ومصر معيداً المجد لدمشق كمركز حضاري وسياسي مرموق.
* القلعة الأيوبية:
توفي صلاح الدين في عام 1193م ونشب النِّزاع بين أولاده وكذلك بينهم وبين أبناء عمهم الملك العادل الذي طغت شخصيته على النِّزاع وتسلطن على البلاد في عام 1199م وعيَّن أولاده وأولاد أخيه ملوكا وأمراء في أنحاء الدولة الواسعة.
عندما آلت أمور الدولة في دمشق للملك العادل وجد بأن القلعة القديمة لم تعد تلبي الحاجة المطلوبة ولا تتفق والتطور الذي حصل في فن العمارة والتحصين العسكريين، لاسيما بعد ما أصابها من دمار إثر زلزالي عام 1200 و1201م فخطط لبناء قلعة جديدة في نفس مكان القلعة القديمة، فجاءت أضخم وأرحب وأكثر منعة وامتدت على مساحة قاربت 34000م2على شكل شبه مستطيل تتراوح أبعادها (225-240م) طولاً و(120-165م) عرضاً محتوية في داخلها ما تبقى من عناصر القلعة السلجوقية الأقدم.
ويشرح مدير القلعة مراحل تجديد القلعة الأيوبية:
استمرت عمليات التجديد والتحصين في القلعة الأيوبية إبان الفترة المملوكية التي امتدت قرابة القرنين ونصف القرن (1259-1516م) لاسيما بعد الدمار الذي أصابها أثناء غزو التتار زمن هولاكو عام (1260م) وقازان عام (1299م) والمغول زمن تيمورلنكعام (1400م)، حيث دمَّر الغزاة كثيراً من بناء القلعة، فأعاد أمراء المماليك ترميمها وتأريخ هذه الأعمال على جدران القلعة من خلال النقوش والرنوك التي تشير إلى ذلك مما طبع القلعة بطابع مملوكي هام يحاكي طابع بنائها الأيوبي.
أما في العهد العثماني وبعد تطور الأسلحة وسيطرة النارية منها على المعارك، تضاءلت الأهمية العسكرية للقلعة وردم خندقها وتحولت إلى ثكنة وسجن ودور إقامة لضباط الانكشاريةوالتنفذيين في حكم دمشق. كما حافظت القلعة على وظيفتها كسجن إبان فترة الانتداب الفرنسي وكذلك لعقود عديدة كسجن مركزي لمدينة دمشق حتى أُخلي منها في عام 1984.
المكانة التاريخية للقلعة يبينها المهندس العجي موضحا:
رغم أن المصادر التاريخية القديمة أمثال (مؤرخات ابن عساكروابن الأثير وابن شداد وابن كثير والرحالة ابن جبير) وكذلك الأبحاث والدراسات الأثرية الحديثة منذ مطلع القرن العشرين وطيلة فترة امتداده من دراسات (سوبرنهام والعالمين الألمانيين وولزنجروفالزنجر والفرنسي سوفاجيه والبريطاني كينغ والأميركي شيفيدين والمعمار الألماني هانش وصولاً إلى المؤرخ السوري د.الريحاوي) لم تشر أو تتمكن جميعها من إثبات الجذور التاريخية لحصن أول قلعة في دمشق سبقت القلعة السلجوقية، هذا لم يمنع الباحثين والمهندسين من أبناء دمشق من كشف حقيقة تاريخية هامة تؤكد أن بناء قلعة في مدينة دمشق كان مؤكداً في القرن العاشر كما أشار المقدسي إلى ذلك وكان حصناً من لبن. لا بل ذهبت الاكتشافات لإثبات ما هو أقدم من ذلك، حيث أن هذا الحصن من القرن العاشر قد بُني على أنقاض حصن متقدِّم عنه وربما يعود إلى العصور الكلاسيكية، حيث كانت دمشق مدينة مزدهرة بالحصون الرومانية ومن ثم البيزنطية.
* ميزاتها المعمارية والعسكرية:
ذهبت الدراسات التاريخية إلى اعتبار القلعة مرت بمرحلتين رئيسيتين استنادا للعناصر الحاضرة من كلتا المرحلتين وكذلك يمكن الحديث عن أقسام القلعة وميزاتها المعمارية وفقاً لهاتين المرحلتين. لقد كانت هذه القلعة في وقت من الأوقات دار ملك لسلاطين عظام بيدهم تصريف شؤون المنطقة العربية سياسياً وعسكرياً وحضارياً من أمثال نور الدين وصلاح الدين والملك العادل والظاهر بيبرس وغيرهم، وهي التي لم يتوفر لها – كسائر القلاع الأخرى – الحصانة والمنعة الطبيعيتين بسبب وقوعها في منطقة سهلية وليس على قمة جبل مما دعا للاعتناء الشديد بعملية تحصينها وزيادة منعتها، مستفيدة من كافة علوم العمارة العسكرية آنذاك.
تشير المصادر التاريخية بأنه كان للقلعة السلجوقية أبواب ثلاثة، باب الحديد المستجد لباب الحديد الأقدم للمدينة في جهتها الشمالية وكان يحف به برجان مربعان وباب المدينة وبرجه وهو في الجانب الشرقي وباب السر وبرجه في الجهة الغربية، غير أن باباً رابعاً تظهر ملامحه بوضوح ويحف به برجان دائريان يدلان على تقنيات الترميمات المعمارية المتبعة في أسوار المدينة إبان عهد السلطانين نور الدين وصلاح الدين يبدو واضحاً في الجهة الجنوبية. إضافة لهذه الأبواب وأبراجها يمكن تمييز بعض الأبراج التي لاتزال بأكملها أو أجزاء منها تشهد على وجودها كبرجي الزاويتين الشمالية الشرقية والجنوبية الشرقية. والبرج المكتشف في منتصف المسافة ما بينهما إلى الجنوب من برج الدخول الشرقي. وكذلك أيضاً البرجين المربعين إلى الشرق من الباب الجنوبي والبرج الدائري في الزاوية الشمالية الغربية.
غير أن القلعة السلجوقية ولكونها مقراً للسلاطين فقد كانت تعجّ جنباتها بالمباني والدور السكنية والخدمية والدينية كدار الرضوان التي أنشأها الأمير تتشلابنه رضوان قبالة الباب الشمالي ودار المسرة التي شيدها شمس الملوك اسماعيل عام (1132م) ورممها السلطان نور الدين زنكي بعد زلزال عام (1169م) وكذلك كان هناك مسجد كبير بناه نور الدين وآخر صغيرا ومسجدا باب القلعة وقبلي القلعة، وكذلك كان هناك الحمامات وأهمها الذي بناه شمس الملوك في شمال القلعة، كما كان للقلعة خندق يحيط بها عرضه قرابة (20م) كان يملأ بالماء من خلال نهري العقرباني شمال القلعة وبنياس الذي يدخلها من الغرب.
تطور فن العمارة العسكرية في بلاد الشام إبان فترة حملات الفرنجة وبلغ ذروته مطلع القرن الثالث عشر وهي الفترة التي أعاد فيها الملك العادل بناء قلعة دمشق وفق ما يُعرف بالقلعة الأيوبية، وقام بإجراء التعديلات على قلاع حلب وبصرى والحصن، وجاء بناء القلعة مثال القوة والحصانة بفضل خصائص ومميزات فن عمارتها التي تمثلت بما يلي:
الهندسة والمخطط العام: بالعموم، تحررت قلاع الفترة الأيوبية من فكرة المخططات المنتظمة للقلاع التي سادت في الفترات الكلاسيكية وبدأت تراعي الموقع الجغرافي والمحيط البيئي للموقع كحال قلعة دمشق الواقعة في منطقة شبه سهلية محاطة بمجاري الأنهار.
تصميم المداخل والبوابات: استخدمت في قلعة دمشق معظم تصاميم المداخل للحصون، فبوابتها الشمالية لا يمكن اختراقها إلا بعد تنفيذ خمسة انكسارات في مسار الدخول، وأما الشرقية فهي بانكسار واحد يحتاج لجسر متحرك للوصول إلى برج الدخول الحصين، أما بابها الغربي فكان يعرب بباب السر لاختفائه ضمن الأسوار خلف برج متقدم وضخم، وقد استعيض عن بوابتها الجنوبية ببوابات جانبية في كل برج وعلى واجهتها الجنوبية يقع أسفل البرج في منطقة تغمرها مياه الخندق.
الأبراج: عرفت أبراج القلعة أشكالاً ثلاثة، المربع والمستطيل والزاوية فلها برجي زاوية مربعين (الشماليين) وآخرين بهيئة زاوية (الجنوبيين) وباقي أبراجها مستطيلة الشكل، ثلاثة في الجنوب ومثلها في الشمال واثنان شرقيان وثالث في الغرب، وتتميز هذه الأبراج بضخامتها وارتفاعها الشاهق وبروزها المميز عن الأسوار والذي يصل إلى (15م)، حيث تبلغ أبعاد الأبراج قرابة (15×30م) بارتفاع (26م) مؤلفة من ثلاثة طوابق وطبقتي سطح وذلك لزيادة مساحات الرمي.
البدنات والممرات الدفاعية: وهي قطع الأسوار التي تصل بين الأبراج والتي يصل طولها أحياناً إلى (35م) مؤلفة من طبقتين ويمكن إضافة ثالثة خشبية عند الحاجة، أما الممرات الدفاعية المقببة فقد تطورت إبان الفترة المملوكية التي بدأت معها استخدامات المنجنيق بشكل واسع مما اضطر المعماريين العسكريين لخلق ممرات مقببة بين أسوار القلعتين السلجوقيةوالأيوبية لحماية الجنود أثناء تنقلاتهم وهذه الممرات تشابه البدنات لجهة الارتفاع غير أنها تستمر على كامل المحيط الداخلي للأسوار.
الستائر والأسطحة والمرامي وعناصرها: تزودت أسوار أبراج القلعة بالمرامي والرواشن وسقاطات الزيوت المغلية على امتداد الأسوار وفي سويات مختلفة وصلت إلى خمسة في الأبراج وثلاث في الأسوار.
إذن القلعة الحالية هي مزيج من عناصر القلعة السلجوقية لا تشاهد إلا من الداخل والقسم الأعظم والأسوار الخارجة تعود للقلعة الأيوبية وما تبعها من أعمال ترميم في الفترتين المملوكية والعثمانية وهي بالعموم مؤلفة من ثلاثة عشر برجاً أحدها شبه مختلف تماماً (في الواجهة الغربية)، أربعة في الأركان وثلاثة في كل من الضلعين الطويلين الشمالي والجنوبي واثنان في الشرق إضافة للبوابات الثلاث الشرقية جهة المدينة والشمالية والغربية إلى خارج الأسوار، وضمن القلعة قاعات فخمة كقاعة الأعمدة بالقرب من الباب الشرقي والتي يصلها بمجمع الدخول الشمالي رواق انيق من تسعة مجازات يعرف بالرواق الشمالي الكبير وهذا ما تبقى من مربع يعتقد بأنه كان يشكل الفراغ الداخلي للقلعة، حيث شيدت في أركانه الأربعة أربع قاعات مربعة الشكل بطول ضلع يقارب العشرين متراً يصل بينها أروقة يصل طول الواحد منها إلى (60م) عثر على بقايا اثنين من هذه القاعات، واحدة في الزاوية الجنوبية الشرقية والثانية على اتصال بمجمع الدخول الشمالي إضافة لقاعة الأعمدة وينتظر الكشف عن قاعة الركن الرابع بالقرب من البوابة الجنوبية الحالية. كذلك أيضاً يوجد في القلعة مبنى كان يُعرف بالقصر في الجهة الغربية من الضلع الجنوبي، وكشفت التنقيبات اللاحقة بأنه لم يكن سوى دار للسلاح، حيث كانت توضع الأسلحة والذخائر وجلود البزات العسكرية والرنوك والخوذ.
Views: 0