المرحلة الأولى
كان شكسبير في هذه المرحلة كاتباً مبتدئاً بالمقارنة مع معاصريه من الكتاب مثل جون ليلي ومارلو وتوماس كيد. لم تتسم أعماله في هذه المرحلة بالنضج الأدبي والفني، بل جاءت بنية نصوصه سطحية وغير متقنة، وتركيباته الشعرية متكلفة وخطابية. وانتشرت في هذه الفترة المسرحيات التاريخية، نتيجة الاهتمام الكبير بتاريخ إنكلترا، خاصة بعد هزيمة أسطول الأرمادا الإسباني عام 1588، ولرغبة الجمهور بتمجيد البطولات والتعلم من عِبَر التاريخ. كتب شكسبير في هذه المرحلة مسرحيات عدة تصور الحقبة ما بين 1200 – 1550 من تاريخ إنكلترا، وتحديداً الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عائلتي لانكستر ويورك، مثل ثلاثيته «الملك هنري السادس» 1590 ـ 1592، «والملك رتشارد الثالث» 1593، التي صور فيها النتائج السلبية لحكم ملك ضعيف. وتغطي هذه المسرحيات الأربع المرحلة الممتدة منذ حكم هنري السادس وحتى هنري السابع وبدء حكم سلالة تيودور، التي تنتمي الملكة إليزابيث إليها، وتسمى بحقبة حرب الوردتين. ويشبه أسلوب شكسبير فيها أسلوب مسرح العصور الوسطى، ومسرح الكاتب الروماني سينيكا ومسرح توماس كيد العنيف، ويظهر هذا في دموية بعض المشاهد في المسرحيات الأربع، ومن خلال اللغة الخطابية الطنانة. وظهرت هذه الخاصية في مأساة «تايتُس اندرونيكوس» 1594، حيث صور شكسبير الانتقام والقتل بتفاصيل دموية مرئية على الخشبة فجاءت أقل نصوصه صقلاً ونضجاً. ويمزج شكسبير هنا التاريخ والسياسة والشعور الوطني لدى شخصياته التاريخية مع روح الفكاهة في رسمه بعض الشخصيات الدرامية.
ث
كتب شكسبير في هذه المرحلة أيضاَ عدداً من النصوص مثل «كوميديا الأخطاء» 1592، وهي مسرحية هزلية تتبع أسلوب الملهاة الرومانية التقليدية من حيث الالتباس في هوية الشخصيات والتشابه بينها، والهرج والمرج الذي ينتج عن ذلك، و«ترويض الشرسة» 1593، التي ركز فيها على الشخصيات وتصرفاتها وانفعالاتها وسلوكها كخط أساسي للمواقف المضحكة والمحملة بالمعاني في الوقت نفسه، ومسرحية «سيدان من فيرونا» 1594، التي تحكي عـن الحب الرومنسي، و«خـاب سـعي العشاق» 1594، التي قدم فيها صورة سلبية عن الحب وما يرافقه من تغيرات وتحولات في شخصيات وسلوك العشاق وما يصدر عنهم من تصرفات صبيانية.
كتب شكسبير أهم مسرحياته التاريخية في هذه المرحلة، مثل «الملك رتشارد الثاني» ريتشارد الثاني ملك إنجلترا 1595، و«الملك جون» 1596، «والملك هنري الرابع» هنري الرابع (توضيح) 1597، في جزأين، «والملك هنري الخامس» هنري الخامس (توضيح) 1598، كما كتب نصوصه الكوميدية الأكثر مرحاً وتميزاً، مثل ملهاة «حلم ليلة منتصف الصيف» 1595، «والليلة الثانية عشرة» الليلة الثانية عشرة أو كما تشاء 1595، «وجعجعة بلا طحن» جعجعة بلا طحن 1598، «وعلى هواك» 1599، إضافة إلى «روميو وجولييت» روميو وجولييت 1595، “ويوليوس قيصر” يوليوس قيصر 1599، “وتاجر البندقية” تاجر البندقية 1596. ويظهر في هذه المرحلة تطور ملحوظ في أسلوبه الذي صار يميل إلى الخصوصية والتميز.
تحكي مسرحية «الملك رتشارد الثاني» قصة ملك ضعيف يخسر عرشه ومملكته مما أثار حفيظة الملكة إليزابيث لتناولها موضوعاً سياسياً حساساً فمنعت عرضها قائلة: «أنا رتشارد». ويتابع شكسبير التسلسل التاريخي في مسرحية «الملك هنري الرابع» التي كتبها في جزأين، «والملك هنري الخامس»، حول ابنه الذي يثبت قدرته على الحكم وتحمل المسؤولية. وقد عُرفت مسرحية «هنري الرابع» بشخصية الفارس البدين فولستاف، التي ألهمت الكُتّأب، فصارت منبعاً للشخصيات المضحكة الطريفة، لكنها ذات أبعاد إنسانية عميقة، إذ يمزج شكسبير فيها بين الحزن والفرح والخوف والجبن والحماسة.
تعدّ «حلم ليلة منتصف الصيف» من أروع ما كتب شكسبير في الملهاة، إذ اعتمد فيها على نسيج درامي معقد من ثلاث حبكات وثلاثة عوالم مختلفة ومتداخلة من الجن والبشر، تصور زوجين من العشاق من العائلات النبيلة في أثينا، ومجموعة من الشخصيات الهزلية من أهالي ريفها الذين يحضرون عرضاً مسرحياً للاحتفال بزواج الدوق وهيبوليتا، إضافة إلى عالم الجن الذي يتزعمه أوبيرون وملكة الجن تايتانيا وخادمهم البارع النشيط بَك. ويظهر شكسبير في هذه المسرحية العواطف التي تحكم الجميع حتى الجن، كالحب والغيرة والكره أحياناً، في قالب رومنسي مضحك مملوء بالمعاني والعبر. وبدأ بعد ذلك كتابة «تاجر البندقية» وهي من نوع الكوميديا السوداء، التي صور فيها قصة السيدة النبيلة بورشيا وزواجها من بَسانيو، وصديقه التاجر أنطونيو الذي يستدين من مال المرابي اليهودي شايلوك، الذي يتوق بدوره للانتقام بهذا الدَّين من المجتمع الذي ينبذه، ولاسيما أن ابنته الوحيدة هربت بالمال الذي جمعه طوال عمره مع شاب مسيحي. وتتداخل في هذه المسرحية مفاهيم الصداقة بين رجلين مع مفهوم الحب الرومنسي بين بورشيا وبسانيو، في مواجهة عدم إنسانية المرابي اليهودي ومعاناته في مجتمع لا يتقبله. وأكثر ما يميز هذه المسرحية شخصية بورشيا التي صارت من شخصيات شكسبير النسائية التي شكلت ثورة في الأدب المسرحي، وكانت منهلاً لشخصيات نسائية أخرى ابتدعها في مسرحياته الأخرى. ولقد صور شكسبير شخصيات نسائية تعتمد على ذكائها وفطنتها وليس على جمالها، وبهذا استطاع تحويل أحد المعوقات في المسرح الإليزابيثي في عصره إلى ميزة، إذ كانت أدوار النساء تمثل من قبل صبية، واستخدم تنكر الصبية في أدوار النساء عاملاً أساسياً في الحبكة في هذه المسرحية وأيضاً في «الليلة الثانية عشرة»، «وعلى هواك» حيث تظهر شخصيتان نسائيتان أساسيتان هما فيولا وروزالِند في هيئة غلامين للتمكن من الاقتراب ممن تحبان بحرية، مما يخلق توتراً ومواقف مضحكة وإنسانية في آن واحد.
وكتب شكسبير «زوجات وندسور المرحات» في نهاية هذه المرحلة، وتعود فيها شخصية فولستاف إلى الظهور. أما في «روميو وجولييت» فقد صور الحب الفتي بشاعرية عالية والمصير المؤلم لحبيبين وقعا ضحية خلاف قديم بين عائلتيهما وقضيا نتيجة اندفاعهما العاطفي. وتعد «يوليوس قيصر» من أشهر ما كتب، وهي مأساة سياسية من التاريخ الروماني، الذي نهل منه عدداً من نصوصه الأخرى، يصور فيها شخصية بروتوس؛ إحدى أكبر الشخصيات التراجيدية في المسرح.
المرحلة الثالثة
تميزت هذه المرحلة بأفضل ما كتب شكسبير، ولذا سماها بعض النقاد مرحلة النضج الأدبي، إذ كتب أعظم نصوصه التراجيدية وتلك التي تقترب من الكوميديا السوداء. وتُظِهر مآسي هذه المرحلة عمق الرؤيا عند شكسبير وبراعة الصنعة الدرامية، فقد وظف في هذه المسرحيات أدواته الشعرية بما يناسب النص والعرض المسرحيين فوصل إلى حد الإتقان في الدمج بين العواطف البشرية والفكر الإنساني مع الشعر والمواقف المؤثرة.
كتب شكسبير في هذه المرحلة مأساة «هاملت» Hamlet ت (1601) التي تعد أشهر مسرحياته عالمياً، وصور فيها الوضع الإنساني من عظمة وجبروت وضعف في الوقت ذاته. تحكي «هملت» قصة الأمير الدنماركي الذي يقع ضحية إجرام عمه وضعف أمه وحقيقة أن والده قُتل على يد عمه. يعيش هملت في حيرة وضياع في صراعه بين تردده في اتخاذ قرار الانتقام والإقدام عليه واندفاعه الذي يحطم كل من حوله. ولايزال صراع هملت المرير وتردده يشغل الكثيرين من النقاد والمفكرين وعلماء النفس والكتاب، ويولد جدلاً زاخراً بالتفسيرات والدراسات والاجتهادات التي مانفكت تضيف إلى الإرث الكبير من النقد الأدبي لهذا النص ولأعمال شكسبير عامة. وتعد «هملت» الأهم بين أعمال شكسبير من حيث استخدام اللغة، إذ تعكس لغة المناجاة الداخلية soliloquy والتحليل ومخاطبة الجمهور في حديث جانبي aside الصراع داخل هملت. وقد اشتهر عن هملت نصيحته التي وجهها للممثلين الذين يحضّرهم للقيام بعرض مسرحي أمام عمه الملك لكي يوقعه في الفخ عندما يشاهد جريمة تشبه جريمته. وتقدم النصيحة صورة موثقة عن أساليب التمثيل في أيام شكسبير، التي اعتمدت على المبالغة ولم تعطِ اللغة الاهتمام الذي تستحقه.
أما في مأساة «عطيل» Othello ت (1604) فقد قدم شكسبير تحليلاً عميقاً لآلية الإيقاع بقائد عظيم أسود البشرة ضحية الغيرة على زوجته البيضاء المخلصة دِزدمونة Desdemona، من خلال المخطط الخبيث والمدروس الذي يرسمه تابعه إياغو Iago الذي يستغل نقاط الضعف لدى سيده الغريب عن المجتمع الذي يعيش فيه، على الرغم من مكانته المرموقة، ولكونه ينتمي إلى ثقافة شرقية تختلف في معالجتها لموضوع الحب والغيرة والشرف عن نظيرتها الغربية. ويتطرق أيضاً لمفهوم الشر من أجل الشر، الذي صوره شكسبير في شخصية إياغو الذي يجد لذة في هذا الشر فيكشف خططه للجمهور من خلال تقنية الحديث الجانبي التي تضع المشاهد في وضع المتواطئ معه والراغب في إدانته في آن معاً.
يعدّ بعض النقاد أن «الملك لير» King Lear ت (1605) مسرحية شكسبير الأهم، كونها تتميز بأبعاد ملحمية لقصة صراع عائلي بين الآباء والأبناء وبعمق في تحليلها العواقب الوخيمة التي تتمخض عن تصرف الملك الانفعالي غير المسؤول عندما يتنازل عن السلطة والمال لابنتيه ويحرم ابنته الصغرى كورديليا Cordelia، لظنه أنها لا تحمل له من الحب ذات القدر الذي تحمله له أختاها اللتان تبالغان كذباً في التعبير عن حبهما لوالدهما، بينما تعجز الصغرى، وهي أكثرهن حباً لوالدها، عن التعبير بالكلمات. وتلقى كورديليا حتفها ويعجز والدها عن إنقاذها قبل أن يموت، ويظهر فشل الخير أمام حماقة البعض وتعنتهم وتجاهلهم الحقيقة. أما في مسرحية «أنطوني وكليوباترا» Antony and Cleopatra ت (1606) فيتناول شكسبير موضوع الحب المحرم سياسياً وأخلاقياً بين القائد الروماني وملكة البطالمة كليوباترا، والذي سبب الدمار لـه ولسمعته في روما، وهو حب ناضج بين حبيبين في أواسط العمر لم يسبق لأحد أن عالجه بذات البراعة والعمق والشاعرية مثل شكسبير. وفـي مسـرحية «مَكبث» Macbeth ت (1606) يقدم شكسبير تحليلاً لرجل يستسلم لطموحه الجامح لضعف في شخصيته فيفقد إنسانيته ويصبح قادراً على أي جريمة. تبرز شخصية الليدي ماكبث من بين الشخصيات النسائية في الأدب العالمي فتصور المرأة الطموح التي لا يقف في طريقها شيء، ولتصبح أنموذجاً لكثير من الشخصيات النسائية المتمردة.
كتب شكسبير نصوصاً أخرى لونها بروح الكوميديا السوداء التي تنبع من افتقار البطل للعظمة والقوة التي يحتاجها ليسيطر على عواطفه، ففي «ترويلوس وكريسيدا» Troilus and Cressida ت (1602) التي تعد من أرقى مسرحياته فكريّاً، يصور شكسبير الثغرة بين المثالي والواقعي، والشخصي والعام عند الفرد المسؤول عن الشأن العام، وتظهر فيها نظرة سلبية تجاه المرأة. وتسيطر هذه الروح السوداوية التي تضفي بعداً إنسانياً جديداً على مسرحياته الأخرى في هذه المرحلة، مثل مأساة «كوريولانوس» Coriolanus ت (1608) و«تيمون (تايمون) الأثيني» Timon of Athens، و«الأمور بخواتيمها» All’s Well That Ends Well ت (1602).
المرحلة الرابعة
كتب شكسبير في هذه المرحلة أهم نصوصه الرومنسية، وبدا في أواخر حياته وكأنه يقدم رؤى جديدة متفائلة باستخدامه أدواتٍ ومفاهيم عدة، من الفن والعاطفة وعالم الجن والسحر والخيال، إضافة إلى استخدامه الشعر الغنائي أكثر من أي وقت مضى، مما جعل مسرحياته الأخيرة تختلف كثيراً عن سابقاتها. لذا اتجه بعض النقاد إلى القول بأن المسرحيات الأخيرة تلخص رؤية شكسبير الناضجة للحياة، بينما رأى آخرون أن هذا الاختلاف في أسلوبه وفكره ما هو إلا تغير في الأذواق والتوجهات شهدها المسرح بعد عام 1608. تتحدث معظم مسرحياته في هذه المرحلة عن ألم الفراق بين المحبين ثم اللقاء ولمّ الشمل في رحلة من المعاناة تتعلم الشخصيات فيها من أخطائها وتغير من مواقفها إلى الأفضل من دون صراع، كما في مسرحية «بريكْلِس» Pericles ت (1608) و«سيمبلين» Cymbeline ت (1610)، و«حكاية الشتاء» The Winter’s Tale ت (1610). ولعل «العاصفة» The Tempest ت (1611) أفضل ماكتب شكسبير في هذه المرحلة قدم من خلالها مفهومه للحياة الذي يجمع بين القوة والحكمة في شخصيات بروسبرو Prospero وابنته ميراندا Miranda وخادمه إيرييل Ariel، وتضمنت بعض أفضل شعره.
هناك في هذه المرحلة مسرحيتان تنسبان إلى شكسبير، إذ قد يكون شارك في كتابتهما مع الكاتبين بومونت وفليتشر Beaumont and Fletcher، وهما «الملك هنري الثامن» Henry VIII ت (1613) و«القريبان النبيلان» The Two Noble Kinsmen وتتحدث الأخيرة عن حب صديقين لامرأة واحدة.
اقتبس شكسبير نصوصه التي كتبها في المراحل الأربع كلها من الحوليات والتاريخ ومما كان متوافراً من كتابات نثرية وقصص في عصره، كما تأثر أسلوباً وفكراً بالإنجيل. كانت «حوليات انكلترا، اسكتلندا، وأيرلندا» Chronicles of England, Scotland, and Ireland ت (1587) لرفائيل هولينشيد Raphael Holinshed مصدره الرئيسي عن التاريخ الإنكليزي، وكانت ترجمة توماس نورث Thomas North ت (1579) لكتاب بلوتارخس Plutarch «سير نبلاء اليونان والرومان» Lives of the Noble Greeks and Romans مصدر مسرحياته الرومانية. أما بالنسبة للمسرحيات الأخرى خارج هذين المجالين فقد اعتمد على مسرحيات قديمة أعاد كتابتها، وعلى أعمال كتّأب آخرين. تصرف شكسبير في مصادره بكل حرية بما يناسب الغرض الذي يكتب من أجله، لكنه اقتبس مقاطع كاملة من هولينشد وبلوتارخس كما وردت، وبحد أدنى من التغيير، وأضفى عليها أجمل شعره، معطياً بذلك أبعاداً جديدة لقصص التاريخ.
Views: 1